أجرى الحوار: الطاهر الطويل
بأناقته المعهودة، دخل الأستاذ عزيز السغروشني إلى مسرح محمد الخامس في الرباط، لكن هذه المرة ليس كمدير للمؤسسة التي أشرف عليها مدة 36 عاما، ولكن كضيف لمجلة “مسرح” التي ارتأت محاورته حول هذه التجربة الثرية. ورغم تقدمه في السن، أطال الله في عمره، ما زالت ذاكرته متّقدة، تستحضر الأسماء والوقائع واللحظات المميزة.
وكالتفاتة تجاه هذه المؤسسة التي رفدها من خبرته ووقته وعمره الشيء الكثير، أخبرنا أنه سيهدي مركز التوثيق المسرحي بها 50 كتابا مما تتوفر عليه مكتبته من ذخائر تتعلق بالمسرح والفنون الاستعراضية، وأطلعنا على لائحة العناوين المقرر إهداؤها، معربًا عن أمله في أن يحذوا الفنانون لاسيما كبار السن حذوه.
يستحضر الكثيرون هيبة الرجل وجديته في إدارة المؤسسة، إذ كان يقف على أدق التفاصيل. وكان من عادته ألا يغادر المسرح حين يحتضن عرضا ما حتى يخرج الجميع؛ وكذلك كان يفعل حين يشرف على حفلة فنية ما في القصر الملكي، مثلما أسرّ لنا هو نفسه بذلك، خشية أن ينسى أحد الفنانين أو التقنيين شيئا ما في مكان الحفل.
في هذا الحوار، نسترجع مع عزيز السغروشني علاقته المبكرة بأب الفنون، ونتوقف عند طريقة تدبيره للعروض الفنية فيها وعلاقته مع الفنانين، فضلا عن نظرته إلى راهن المسرح في المغرب:
ـ لنرجع بالذاكرة إلى علاقتك بالفن؟
ـ اهتمامي بالمسرح بدأ حين كنت تلميذا في ثانوية مولاي إدريس بمدينة فاس أيام الحماية الفرنسية للمغرب، فقد كان المقرر الدراسي يتضمن نصوصا لعدد من الكتاب المسرحيين الكلاسيكيين، من بينها مسرحيات بيير كورنيPierre Corneille وموليير Jean-Baptiste Molière ، حيث نقوم بدراسة على كل نص، ونُمتحن فيه خلال البكالوريا.
في ذلك الوقت كانت في فاس لأول مرة ثانوية مختلطة للتلاميذ الفرنسيين، وتضمنت مقرراتها مادة حول المسرح.
كنت المغربيّ الوحيد من بين الفرنسيين الذي تلقّى مبادئ هذا الفن في تلك الثانوية الفرنسية، وكان عددهم حوالي عشرين تلميذًا. وفعلا، اطّلعت على أدبيات الفن الدرامي وتقنياته ومراحل إنجاز العرض المسرحي، فضلا عن الجوانب المتعلقة بالتسيير والإدارة وغيرها. كنت أحضر كهاوٍ بعد الانتهاء من دروسي عشيةً. حصص المسرح كانت تُقدّم مرتين في الأسبوع، ثم صارت ثلاث مرات.
بعد حصولي على البكالوريا، ذهبت إلى المدرسة العليا في مدينة سان كلو Saint-Cloud بفرنسا التي كانت تضم مركزا للوسائل السمعية البصرية، وضمنها كان هناك اهتمام بالمسرح والفنون الاستعراضية ككل. حصلت فيها على شهادتي، ثم رجعت إلى المغرب، حيث كان المسرح يعيش بداياته الأولى.
ـ حسنًا، ما حكاية النص المسرحي الذي ألّفته تحت عنوان “الفصل الأخير”؟
ـ سبق لي حين كنت في ثانوية مولاي إدريس بفاس، أن كتبت نصا حول الخيانة، بطريقة هاوية، إذ لم تكن لدي دراية كافية بتقنيات الكتابة. ثم كتبت مسرحية أخرى بعنوان “الكاهن” أدى فيها أحمد الطيب العلج دورا مهما، ولقيت صدى طيبا.
بعدها، خطرت ببالي فكرة أن أضفي على موضوع النفاق بعدا آخر، فجاءت مسرحية “الفصل الأخير” التي كتبتها بأسلوب احترافي، حسب التقنيات والضوابط التي تعلمتها في مدرسة مدينة سان كلو، وكتب المقدمة أستاذ فرنسي اسمه جان غيوندي Jean Ruandy، كان مستقرا في المغرب وعمل إطارا في الشبيبة والرياضة. حينما تحدثت معه وحكيت له قصة المسرحية واستعرضت أمامه مشاهدها، كتب مقالا يبرز فيها الخلفية “الطرطوفية” للنص (نسبة إلى مسرحية “طرطوف” لموليير التي تتحدث عن النفاق والادعاء الكاذب للتقوى).
ـ وكيف نُسِجتْ صلتك بمسرح محمد الخامس؟
ـ في البداية، كان المسرح الذي افتتح عام 1962 يُستخدم كقاعة سينمائية، وحين علم الملك الراحل الحسن الثاني بالأمر، قال: كيف يعقل أن دور السينما أصبحت تُغلق، وأنتم فتحتم سينما؛ في حين أننا لا نتوفر في العاصمة على قاعة للمسرح وفنون الخشبة؟
أوائل عام 1964، أُخْـبِـرْتُ أن الملك يريد لقائي. وفعلا، استقبلني في القصر الملكي. وما زلت أتذكر أننا جلسنا معا على الزربية، ومكثت معه أكثر من نصف ساعة. تحدث عن مشروعه، كما تطرق في كلامه إلى مجالات تكويني. فكلفني بإدارة المسرح ليكون شاملا للفنون الاستعراضية برمّتها؛ خاصة وأن هندسة مسرح محمد الخامس لم توجد من أجل الفن المسرحي بالمعنى الكلاسيكي المعروف. فمن المعلوم أن قاعة المسرح تكون ذات هندسة مناسبة لهذا الفن، وشرفاتها تطل على الخشبة، لتتيح الإصغاء الجيد للحوارات وتتبع ملامح الممثلين والممثلات وحركاتهم.
في ذلك الوقت، كنت مكلّفا في وزارة الشبيبة والرياضة بالقسم الثقافي كله من مسرح وتشكيل وموسيقى وأنشطة ثقافية… لاسيما وأنه لم تكن لدينا وزارة خاصة بالثقافة، وخلال سنتي 1962/ 1963 كانت توجد في المغرب 350 جمعية ثقافية وما بين 15 و18 مركزا ثقافيا ودار شباب تابعة للشبيبة والرياضة، ثم تكاثر العدد في ما بعد. وكنت أحرص على تنويع التكوين والنشاطات لمرتادي تلك المراكز.
حين عُيّنتُ على رأس إدارة مسرح محمد الخامس، حرصتُ على تنفيذ التوجيه الذي قدمه لي الملك الحسن الثاني، بجعل كل الفنون الاستعراضية من اهتمامات هذه المؤسسة.
ـ لو طلبنا منك أن تعطينا خلاصة التجربة وأنتم على رأس هذه المؤسسة كل هذه السنين الطويلة؟
ـ لا يمكنني أن أقدّم الخلاصة في بضع كلمات، فهو أمر صعب جدا. أكتفي بالإشارة إلى معطى أذكره في بعض المناسبات من حين لآخر: كنت محظوظا باعتباري رئيسا لجمعية “أصدقاء المسرح الفرنسي”، حيث كنا نستقبل الفرق الفرنسية المشهورة آنذاك وجميع نجوم المسرح الفرنسي، كما كنت كاتبا عاما “للرابطة الفرنسية في المغرب”، مما سهل علي المهمة، حيث كنت أستدعي محاضرين ومغنيين وفنانين.
كان المسرح الفرنسي متاحا لي بسهولة كبيرة، يكفي أن أوجه رسالة لفرقة ما تتضمن دعوة لعرض أحد أعمالها في المغرب، فتحصل في فرنسا على منحة وتذاكر السفر وكل التسهيلات… ففي وزارة الخارجية كانت هناك جمعية تحمل اسم “الجمعية الفرنسية للعمل الفني”L’association française d’action artistique تتحمل جميع مصاريف الفنانين من أجل نشر الثقافة الفرنسية.
وفي الوقت نفسه، كنت مع محمد الفاسي رحمه الله عضوا في “جمعية الصداقة المغربية السوفياتية” أشغل مهمة كاتب عام، ما أتاح لي تنفيذ مجموعة من الأنشطة، حيث عملت على استقدام فرقة باليه “البولشوي”، واستغرب الفرنسيون من قدرتي على استقدام هذه الفرقة. كل ما في الحكاية أنني ذهبت إلى موسكو، وتقدمت بطلب لاستدعاء “البولشوي”، موضحًا أن المغرب لا يستطيع التكلف بتذاكر أعضاء الفرقة المذكورة ومصاريفهم، فتولت الدولة السوفياتية توفير ذلك، واكتفينا نحن بإقامتهم في المغرب.
ـ كيف ترى الإشعاع الفني الذي حققه مسرح محمد الخامس ليس في الرباط وحدها بل في المغرب ككل؟
ـ أحيانا كنا ننظم للفرق التي تأتي إلى المغرب جولات في عدد من المدن الكبرى، لا سيما الفرق الفرنسية، سواء المسرحية أو الموسيقية، في إطار أصدقاء المسرح الفرنسي كنا ننظم لها جولات في أكبر المدن، وتتكلف مصالح وزارة الخارجية الفرنسية بجميع مصارفهم تقريبا.
ـ أرجو أن تستحضر لنا بعض اللحظات المميزة التي عاشها مسرح محمد الخامس، بفنانين عرب أو أجانب قدموا حفلات فيه؟
ـ لا يمكن للذاكرة أن تستحضر كل الأسماء والنجوم، يكفي أن أشير على سبيل المثال لا الحصر، أنه في الذكرى الأربعين لميلاد الحسن الثاني كنا استدعينا عددا كبيرا من الفنانين الى مسرح محمد الخامس وقصر الصخيرات، منهم فيروز وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب وغيرهم من النجوم العرب والفرنسيين والعالميين.
ـ عايشت تجارب فنانين مسرحيين مغاربة كبار كالطيب الصديقي وأحمد الطيب العلج وغيرهما، ماذا يمكن أن تقول لنا عن هذه المرحلة؟
ـ هؤلاء الفنانون كانوا يشاركون في بعض الأعمال الكبرى كملحمة العهد الأولى التي تكلف بها الفنانون الطيب الصديقي وأحمد الطيب العلج وعبد الصمد دينيا وأحمد العلوي ومحمد الخلفي والملحمة الثانية تكلف بها الفنان محمد حسن الجندي… موّلها الملك الحسن الثاني، وأسند مهمة الإشراف عليها إلى مهندس فرنسي كان يعمل تحت إمرته هو أندري باكار André Paccard وأيضا مواطنه جان باتيست باريان Jean-Baptiste Barian اللذان بنيا عدة منشآت معمارية، دينية وسياحية وإدارية ضخمة في المغرب، وحيث إنهما كانا يجنيان أموالا طائلة كانت تناط بهما، بناء على أمر من الملك، مجموعة من الأعمال، مما لا يندرج ضمن مهمتهما، كالإنتاجات الفنية الكبرى.
كنت عضوا في “العصبة المغربية لحماية الطفولة” التي كانت ترأسها الأميرة للا أمينة، وحين نلاحظ خصاصا في بعض الأمور، مثلا في منطقة بشمال المغرب كان السكان لا يتوفرون حتى على مركز صحي، فاتصلت الأميرة بالمهندس باكار، وأمرته ببناء المركز من جزء من الأموال التي يجنيها من مشاريعهما العملاقة.
وقد كنت شخصيا مجنّدا للعديد من الأعمال الاجتماعية بجانب المجال الفني والثقافي؛ بحيث طيلة وجودي على رأس إدارة مسرح محمد الخامس مدة 36 سنة لم أستفد من أية عطلة، ذلك ان الموسم الفني كان ينتهي في مايو، وبعده تقدم المدارس الأجنبية الموجودة بالمغرب عروضها الفنية ابتداء من يونيو، وفي شهري يوليوز وغشت نهتم بالحفلات الخاصة ببعض المناسبات الوطنية لاسيما تلك المرتبطة بالعائلة الملكية.
ـ كنت تحرص على رفض مجانية الدخول الى المسرح. ما الهدف من ذلك؟
ـ أعتقد أن ذلك نابع من ضرورة أن يقدّر الجمهور الجهود التي بذلها الفنانون والتقنيون الذين أعدوا العمل الفني وشاركوا فيه. المجانية تبخس العمل الثقافي والفني. فلا معنى أن لا يساهم المرء بقسط بسيط من المال مقابل حضور العمل، خاصة وأن أثمنة التذاكر كانت رمزية فقط، مقابل الأثمنة التي توضع لها في بلدان أجنبية. مثال ذلك، حفلة شارل أزنافور في المغرب كانت تذاكرها الأغلى بـ 200 درهم، وأقل من ذلك بكثير في المقاعد البعيدة عن المنصة. أما في فرنسا فكانت التذاكر تصل إلى ما يعادل 600 درهم.
ـ عملت في إدارة مهرجان “موازين”، ما القيمة المضافة التي تحققت من خلاله لتجربتك السابقة في إدارة مسرح محمد الخامس؟
ـ كان مجهودا جماعيا، ساهم فيه الأستاذ عبد الجليل الحجمري الأمين الدائم لأكاديمية المملكة المغربية حاليا، وكان آنذاك مديرا للمدرسة المولوية. اتصل بي مرة وأخبرني أن الملك محمد السادس يرغب في أن ننظم مهرجانا في المستوى بمدينة الرباط، فأبديت استعدادي لذلك؛ خاصة أنني كنت وجّهتُ لجلالته رسالة أخبره فيها بانتهاء مهمتي في المسرح، لأنه كان ينادي عليّ للمساهمة في الإشراف على حفلات في قصره بمدينة سلا. فأشار على الحجمري بأن أكون إلى جانبه في تنظيم مهرجان “موازين”. وفعلا، استمر عملي فيه لمدة 17 عاما حتى بعدما آل الإشراف العام على “جمعية مغرب الثقافات” إلى منير الماجدي الذي كنت معه على وفاق، ثم توقفت عن التعاون مع الجمعية بعد وصول إدارتها الجديدة.
ـ رأيك في ما تعيشه الفنون المغربية حاليا من محاولات للتقنين والتطوير والمأسسة، ما المطلوب في نظرك؟
ـ المطلوب هو تكوين الأطر، حتى يمكن التمييز بين الهواية والاحتراف. ولا يتوجه الى الممارسة الفنية الاحترافية إلا من هو حاصل على تكوين وخبرة وتقنيات، ويحترم التخصصات المعمول بها على المستوى العالمي.
ـ وماذا عن أدوار مؤسسات التكوين الفني؟
ـ المعهد الفني للفن المسرحي والتنشيط الثقافي كنت من بين الأسباب التي أدت الى تأسيسه، فقد نشرت جريدة “العلم” خلال الثمانينيات حوارا صحافيا معي أجراه الفنان عبد الحق الزروالي. سألني عن الحل الذي أراه للمسرح المغربي، قلت له التكوين؛ لو لم يكن هناك تكوين، فبدونه لا يمكن الولوج الى الميدان الفني ولا احترام لضوابط المهنة.
بعد ذلك، عُيّن محمد بنعيسى وزيرا للثقافة، واستلهم الفكرة، وقال لي سننفذها. وخصصنا الطابق الرابع لمسرح محمد الخامس للمعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، علما بأن ذلك الطابق كان في البداية مقرا للتلفزيون.
ـ يشغلك موضوع التوثيق للميدان الفني؟
ـ لا بد من تكليف مكوّنين للقيام بهذه المهمة، ويمكن الاستعانة بمؤسسة “أرشيف المغرب”، وقد سررتُ كثيرا لمّا علمت أن السيد محمد بنحساين، مدير مسرح محمد الخامس، مهتم بالموضوع، وسيعمل على إنشاء مركز للتوثيق المسرحي. ولذلك، حملتُ معي الآن لائحة تفوق أكثر من 50 كتابا خاصا بالمسرح والفنون الاستعراضية باللغتين العربية والفرنسية، سأهديها للمسرح. أما الكتب التي لا صلة لها بالعمل الفني فسأهديها لجمعية ثقافية.
وأعتقد أن الفنانين الذين يتحلّون بالروح الوطنية متشبعون بالمصلحة العامة سيأتون تلقائيا ويسلّمون ما يتوفرون عليه من وثائق، لا سيما إذا كانوا مسنّين مثلي، من أجل حفظ الذاكرة.
ـ هل أنت متفائل لواقع المسرح في المغرب؟
ـ في ما يخص العمل المسرحي، المعهد يكوّن أطرا جيدة. حينما كان محمد بنعيسى يناقش معي مسألة تأسيس معهد للمسرح، كنت مختلفا معه في التوقيت، إذ كان رأيي هو انتظار أولا تكوين أطر مختصة وقادرة على التدريس. مثلا، لم نكن نتوفر على أستاذ للإلقاء والتعبير الجسدي. وقتها لم يكن من مختص في هذا المجال الأخير سوى محمد سعيد عفيفي وفريد بنمبارك.
ـ وماذا عن سياسة الدعم المسرحي؟
ـ من جاء بفكرة تخصيص الدعم للمسرح هو الوزير محمد بنعيسى وليس محمد الأشعري الذي عين وزيرا للثقافة في فترة لاحقة. أقول هذا الكلام رغم أنني كنت على غير وفاق مع بنعيسى.